أيها الإخوة المؤمنون :
إن أعظم الذكر بركة ما وافق القلب فيه القالب ، و هنا تظهر آثاره على الأعضاء و الجوارح .
فالذكرُ حياءٌ من الله ، الذكرُ مراقبةٌ لله ، الذكرُ صدقٌ في المعاملةِ ، صدقٌ في الحديثِ ، إنه إنجازٌ للوعدِ ووفاءٌ بالعهدِ، فيستحيلُ بعد ذلك أن ترى ذاكراً صادقاً تجتمع فيه صفات المنافقين والمرائين والمشركين ، فمن شذَّ في صفاته وأخلاقه فهو من الذين يذكرون أنفسهم ويؤثرون هواهم ويعظمون شهواتهم والذكرُ منهم بريءٌ.
و لقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة استحقوا الاستظلال بظل عرش الرحمن ، يوم يحترق الخلق في المحشر ، أتعلمون من هم ؟..
إنهم الآمنون من الفزع يوم تنخلع الأفئدة وتبلغ القلوب الحناجر ، و بماذا نالوا هذا الإكرام وهذا النُّزل ؟ لقد نالوه بالذكر . و بأيِّ ذكر ؟ إنه الذكر الذي يدفع الإمام إلى العدل ، والشابّ إلى الالتزام بطاعة ربه ، والقلوب للشوق إلى بيوت الله عز وجل ، و المتحابين إلى المحبة الصادقة و التآخي في الله ، إنه الذكر الذي منع العبد من الفاحشة ، فلولا نزول الإيمان بالله في جذر قلبه لما ارتدع عن الجريمة ، وهو الأمر ذاته الذي جعل المتصدق يمقت الرياء ويؤثر الإخلاص لله على الفاني الزائل .
ثمَّ إن الرسول صلى الله عليه وسلم يتوج ذلك كله بتاج الحضور والخشوع الجياش الخالص لله عز وجل النازل على القلب المتدفق بالدموع المحرقة للذنوب ، والغاسلة للآثام ، فذكر سابع السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، وهو الذي جمع صفات السبعة كلهم.
فيا عجباً للخليقة كيف أنست بسواه ، وكيف اسكنت قلوبها ذكر غيره
[عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ الإمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ]متفق عليه)[1]
ولو عرف الذاكر من يذكر لقوي الحب في قلبه ، فإذا ما عظمت محبته ، قويت معرفته ، ومن قويت معرفته بالمحبوب لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل فقلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته)
و وصف على يوما الصحابة فقال : ( كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في اليوم الشديد الريح وجرت دموعهم على ثيابهم)
قال زهير البابي : ( إن لله عبادا ذكروه فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا وقوم ذكروه فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة فلو حرقوا بالنار لم يجدوا مس النار وآخرون ذكروه في الشتاء فارفضوا عرقا من خوف وقوم ذكروه فحالت ألوانهم غبرا وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا وصلى أبو يزيد الظهر فلما أراد أن يكبر لم يقدر إجلالا لاسم الله وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه ).
كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يري جميع ذلك من عنده وكان يقول ما أظن أن محقا يذكر الله عن غير غفلة ثم يبقى حيا إلا الأنبياء فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم)
قال مالك بن دينار: ( ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله )
وفي أثر آخر : ( وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها )
قال ذو النون : ( ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ولا طابت الجنة إلا برؤيته أبدا )
كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر فرآه بعض الناس فأنكر حاله فقال لأصحابه أمجنون صاحبكم فسمعه أبو مسلم فقال لا يا أخي ولكن هذا دواء الجنون )
يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم )
قيل لمحمد بن النضر أما تستوحش وحدك قال: ( كيف أستوحش وهو يقول أنا جليس من ذكرني )))[2].
[1] - متفق عليه
[2] - المصدر:جامع العلوم والحكم لا بن رجب الحنبلي