عن عائشة - رضي الله عنها- أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم-: أأصوم في السفر؟ – وكان كثير الصيام – قال: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر)(1).
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: (كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، والمفطر على الصائم)(2).
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان في حر شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وعبد الله بن رواحة(3).
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في سفر فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: (ما هذا؟) قالوا: صائم: قال: (ليس من البر الصيام في السفر)، وفي لفظ لمسلم: (عليكم برخصة الله التي رخص لكم)(4).
هذه أحاديث متعددة، تدور حول موضوع واحد، وهو حكم الصيام في السفر، نعرض أحكامه في الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: دلّ حديث عائشة - ضي الله عنهما- في سؤال حمزة بن عمرو الأسلمي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- على التخيير بالنسبة للمسافر بين الصيام والفطر، فهو مخير فيهما، كما دل حديث أنس - رضي الله عنه- على واقع الحال لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في إحدى سفراتهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، بأن منهم الصائم، ومنهم المفطر، ولم يعب كل منهما على الآخر.
ودلّ حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه- على أنهم سافروا سفرة أخرى، ولم يكن أحد منهم صائماً سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وعبد الله بن رواحة - رضي الله عنه-.
أما حديث جابر - رضي الله عنه- فنفى فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم- البر عن من صام في السفر، ولحقته مشقته، وخدمه الآخرون، ووجّه - صلوات الله وسلامه عليه0 إلى الأخذ بالرخص في مثل هذه الأحوال.
الوقفة الثانية: لهذه الأحاديث وغيرها وقع خلاف بين أهل العلم في حكم صوم رمضان في السفر؟ فذهب جمع من السلف - رحمهم الله تعالى- منهم أبو هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر - رضي الله عنهم- وهو مذهب الظاهرية، إلى عدم جواز الصيام في السفر، مستدلين بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)(5)، ووجه الدلالة من هذه الآية أن الله تعالى لم يفرض الصوم إلا على من شهده، وفرض على المريض والمسافر الصوم في أيام أخر.
كما استدلوا أيضاً بحديث جابر - رضي الله عنه- الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)، واستدلوا أيضاً بما رواه مسلم - رحمه الله- عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: (أولئك العصاة، أولئك العصاة)، فسماهم النبي - صلى الله عليه وسلم- عصاة(6).
لكن جمهور أهل العلم ذهبوا إلى جواز الصيام والفطر، واستدلوا بالأحاديث التي سبق ذكرها آنفاً، منها قوله - صلى الله عليه وسلم-: (إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) وقول أنس - رضي الله عنه-: (كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم)، وغيرها مما يدل على التخيير في ذلك، أما الآية التي استدل بها الفريق الأول فقد قدرها أكثر أهل العلم فقالوا: (ومن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر، أما الأحاديث التي فيها وصف الصائمين بالعصاة فهي واقعة عين على أناس شق عليهم الصيام، وعلى من كان قبلهم، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ليس من البر الصيام في السفر)، وبهذا تبين أن رأي جمهور أهل العلم هو الموفق لمجموع النصوص، والله أعلم.
الوقفة الثالثة: اختلف جمهور العلماء في أفضلية الصيام أو الفطر بالنسبة للمسافر، فذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي - رحمهم الله تعالى- إلى أن الصوم أفضل عن من لم يلحقه مشقة به.
وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر للمسافر في رمضان أفضل، ولو لم يلحق الصائم مشقة، مستدلاً - رحمه الله- بحديث: (ليس من البر الصيام في السفر)، وبحديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تؤتى معاصيه).
واستدل الجمهور بالجمع بين الأحاديث، فعلقوا الأمر على المشقة، واستأنسوا بما رواه أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه)(7)، والحمولة: الأحمال التي يسافر بها صاحبها... ورأي الجمهور هو ما يرجحه كثير من علمائنا المعاصرين، وفقهم الله تعالى.
(1) رواه البخاري 4/179 برقم (1943) كتاب الصوم، باب الصوم في السفر والإفطار. ورواه مسلم 2/789 كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر.
(2) رواه البخاري 4/186 برقم (1947) كتاب الصوم، باب لم يعب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم- بعضهم بعضا في الصوم والإفطار، ورواه مسلم 2/787 برقم (1118) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر.
(3) رواه مسلم 2/790 برقم (112) كتاب الصيام، باب التخيير في الصوم والفطر في السفر.
(4) رواه البخاري 4/183 برقم (1946) كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم- لمن ظلل عليه واشتد الحر: (ليس من البر الصوم في السفر). ورواه أبو داود 1/732 برقم (2407) كتاب الصيام، باب اختيار الفطر. ورواه الإمام أحمد 3/317. ورواه مسلم 2/786 برقم (1115) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر.
(5) سورة البقرة الآية رقم (185).
(6) رواه مسلم 2/785 برقم (1114) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية إذا كان سفره مرحلتين فأكثر. ورواه الترمذي 3/89 برقم (710) كتاب الصوم، باب ما جاء في كراهية الصوم في السفر.
(7) رواه أبو داود 1/733 برقم (2410) كتاب الصيام، باب من اختار الصيام. والإمام أحمد 3/476.