(التنبيه على فهم مغلوط لحديث)
( رفقاً بالقوارير )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذا شرح لطيف وتوجيه عفيف لحديث " رفقاً بالقوارير " لأبي الفضل السّلامي صاحب كتاب
( التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها تصحيف وخطأ في تفسيرها ومعانيها وتحريف في كتاب الغريبين عن أبي عبيد أحمد بن محمد المؤدب الهروي )
قال أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي –رحمه الله - :
ومن ذلك ما وقع أيضاً الخطأ في تفسيره ، ما ذكره في باب القاف مع الراء قال :
( وفي الحديث أنه قال : لأنجشة – وهو يحدو بالنساء – :
( رفقاً بالقوارير ) شبههنّ بها لضعف عزائمهن ، والقوارير يُسرع إليها الكسر ، وكان أنجشة يحدو بهن ، وينشد من القريض ، والرجَز في فيه تشبيبٌ ، فلم يأمن أن يصيبهن ، أو يقع في قلوبهن حداؤه ، فأمره بالكف عن ذلك ، وقيل الغناء رقية الزنا ) .
قلت : هذا ما ذكره في كتابه , وهذا الذي ذكره من التفسير في قوله صلى الله عليه :"رفقًا بالقوارير " يعني النِّساء , وهنَّ أزواجه عليه السلام ، ونَّ ؛ لا يجوزُ ولا يَسوغُ أن يُحْمَل قوله عليه السلام على ذلك , إذ قد نزَّهَ اللهُ أزواجَ نبيه صلى الله عليه عن ذلك بقوله تعالى : ﴿الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ﴾ , وبقوله :
﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ , وإنما أراد صلى الله عليه أنَّ الإبل إذا سمعت الحداء أعتقت وأسرعت السير , فربما قلق وضِينُ الهودج فوقعت إحداهنَّ من البعير لشدَّةِ السَّير ، فينكسر بعض أعضائها أو ينخلع . فشبههن بالقوارير لضعفهن , وأن الزجاج سريع الانكسار , ولم يُرد عليه السلام ما ذكره المصنف من ضعف العزائم , معاذ الله مما ظن فلقد أخطأ ظنه , وضعف عقله إذ حمل كلام الرسول عليهالسلام على مالا يجوز في الشرع , ولا يسوغ في العقل .
ومما يقوي ما ذكرته ويوضحه ما أخبرناه المبارك بن عبد الجبار المروزي - قراءة عليه من كتابه – ثنا عبدالعزيز بن علي القرميسينيّ ، قال : أبنا محمد بن أحمد المفيد بجرجرايا قال : ثنا أحمد بن عبدالرحمن السقطيّ قال : ثنا يزيد بن هارون قال : أبنا حمّاد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال : كان البراء جيد الحداء ، وكان حادي الرجال , وكان أنجشة يحدو بالنساء , فحدا ذات يوم فأعتقت الإبل فقال النبى :
" رويدك يا أنجشة , رويدك سوقك بالقوارير"
وأخبرنا أبناء العم , عبدالرحمن بن أحمد ، وعبدالقادر بن محمد ، أبنا عبدالقادر بن محمد اليوسفي ، وهبة الله بن محمد الكاتب – بقراءتي على كل واحد منهم منفرداً – قالوا :
أبنا أبو علي التميمي قال :
أبنا أحمد بن جعفر القطيعي ، ثنا عبدالله بن أحمد ، قال : حدثني أبي ، قال : ثنا ابن أبي عدي عن حُميد عن أنس قال : كان رجل يسوق بأمهات المؤمنين , يقال له أنجشة ، فاشتد في السياقة , فقال له رسول الله :
" يا أنجشة , رويدك سوقك بالقوارير"
وأخبرنا أبو الحسين بن الحمامي - قراءة عليه - قال : أبنا أبوالحسين الحراني قال :
أبنا أبو بكر القطيعي ، قال ثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ، قال : ثنا أبي ، ثنا حجاج ، قال حدثني شعبة ، عن ثابت البُناني , عن أنس بن مالك أن النبى كان فيمسير ، وكان حاد يحدو بنسائه أو سائق , قال : وكان نساؤه يتقدمن بين يديه فقال : " ياأنجشة ويحك أرفق بالقوارير"
فهذا الحديث يبين ما قلت من أن النبى , خشي على النساء أن يقعن من شدة السير من هوادجهن فتنكسر أعضاؤهن ، فأمره أن يرفق بهن في السوق , وشبههن لضعفهن بالقوارير مجازاً .
ولم تكن الحداة على عهد النبى , يحدون بالتشبيب كما ذكر هذا المؤلف , فقد حفظ ذلك ، ونقل في مغازيه وحجه عليه السلام , فمن ذلك ما ذكر أن عامر بن الأكوع كان يحدو بهم في طريق خيبر , وقد أمره النبى عليه السلام بذلك في تلك الغزاة فقال :
والله لولا الله ما أهتدينا
ولا تصدقنا ...ولا صلينا
فأنزل .. سكينة ...علينـا
وثبت الأقدام .. إن لاقينا
ومن ذلك قول عبدالله بن رواحة في يوم فتح مكة , وقد حدا بهم :
خلّوا بني الكفار..عن سبيله
يارب .. إنى ... مؤمن بقيله
نحن ..ضربناكم على تنزيله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل ... الخليل عن خليله
ومن ذلك قول ذي البجادين وهو يحدو بهم أيضًا في غزوة أخرى :
إليك .. تغدو قلقًا . وضينها
مخالفًا دين النصارى دينها
معترضًا في بطنها . جنينها
في أشباه لهذا كثيرة , ولم يكونوا يحدون بالتشبيب ولا بالنسيب , ولا ينشدون الشعر بألحان الغناء التى أحدثها المخنثون ، بل كان إنشادهم للشعر كالنصب للركبان ودعاء الرعيان وطريقة العرب العربان ، لا تخليع الشعر كفعل الفساق المجان ، فكيف يظن أن ذلك كان على عهد النبى عليه السلام ، وصحابته الأعيان الذين أثنى الله عليهم في القرآن ، ونزههم من كل دنس ولغو وطغيان ، وكذلك أزواجه المطهرات المبرءات من كل إفك وبهتان ؟
كيف يجوز لمسلم أن يظن بهن رضوان الله عليهن أنهن يملن الى سماع الغناء ، والتشبيب بالنساء وقد ميزهن الله تعالى على سائر نساء العالمين بقوله تعالى ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ وقد كان فيهن من تحفظ الكثير من الأشعار والقصائد الطوال ، مثل عائشة وزينب وأم سلمه ن ؟
قالت عائشة : كنت أنشد النبي الشعر حتى يزبب شِدقاي ، ولقد أنشدته يومًا ألف بيت للبيد بن ربيعة ، ولم يغيرهن حفظ الشعر فكيف سماعه ، فهذا خطأ ممن يحمل قول النبى عليه السلام على هذا المعنى الركيك ، ويقول فيه : " الغناء رقيه الزنا " لو قيل هذا في حق أزواج المؤمنين كان قبيحاً لا يجوز أن ينطق به ، ولا يعتقد في المحصنات المؤمنات أنهن إذا سمعن الغناء كان داعياً لهن إلى الزنا ، فمُعْتَقِدُ ذلك فيهنّ آثمٌ كاذبٌ ، يجب عليه في ذلك إن صرح به الحد ، فكيف في حق أزواج النبى صلى الله عليه ، ورضي عنهن ، وهن المنزهات الطاهرات المبرءات من كل دنس وعيب وشين وريب ، إن أعتقد فيهن ذلك كان كافراً لقوله تعالى ﴿ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وهذا من المؤلف محمولٌ على السهو والغفلة
[ كان قصد هذا التفسير على عمد منه ولو كان منه كان فسق وضل وخسر وذل عفا الله عنا وعنه ] (1) . اهـ
( التنبيه على الألفاظ التي وقع في نقلها وضبطها تصحيف وخطأ في تفسيرها ومعانيها وتحريف في كتاب الغريبين عن أبي عبيد أحمد بن محمد المؤدب الهروي ) صـ 354-362
قال الشافعي - :
رضى النَّاس غايةٌ لا تُدرك ، فعليك بالأمر الذي يُصلِحُكَ فالزمه ودع ما سواه ولا تعانه .
(منقول)