العقوبة في الفقه الإسلامي
العقوبة في الفقه الإسلامي سياج شرعي وضعه الإسلام ونص عليه، يكفل أمن المجتمع وطمأنينة أفراده ضد اعتداء المعتدين وإجرام المجرمين، فشُرعت الحدود والقصاص والتعزير. وكلٌ له ميدانه وتطبيقاته وأسبابه، وسيرد في هذه المقالة.
الحُدُود
الحدود جمع حد، وهو في اللغة المنع، وفي الشريعة العقوبات الثابتة بنص قرآني أو حديث نبوي في جرائم كان فيها اعتداء على حق الله تعالى، ويصح أن نفسر حق الله تعالى بحق المجتمع، وذلك لأن الله تعالى ما أمر بما أمر وما نهى عما نهى إلا لإيجاد مجتمع فاضل تسوده الفضيلة وتختفي فيه الرذيلة.
والعقوبات التي اعتبرت حدودًا هي: حد الزنى، وحد القذف، وحد الشرب، وحد السرقة، وحد قطع الطريق، وحد الردة. وسُميت العقوبات في هذه الجرائم حدودًا، لأنها محدودة مقدرة بتقدير الله تعالى، ليس لأحد أن يزيد فيها أو ينقص، ولأنها حدود قائمة فاصلة بين الحق والباطل، وفاصلة بين ما هو فاضل، وماهو مرذول، فهي حدود الله تعالى التي تحمي المجتمع، وكأن الجرائم التي تكون عقوبتها حدودًا ثغور يهاجم المجتمع من جانبها، والعقوبات هي التي تُسد بها هذه الثغور، كما أن هذه العقوبات شرعت لحماية الفضيلة الإنسانية العليا التي قررها الإسلام، فهي بمنزلة الحد الفاصل الذي يمنع الأشرار من اقتحام حمى الأخيار، وحدود العقوبات هي:
حد الزنى. والزنى كما يعرّفه الإمام أبو حنيفة “الوطء المحرَّم في قُبُل المرأة الحية وطئًا عاريًا عن الملك والنكاح والشبهة، وهو بالنسبة للمرأة أن تمكِّن الرجل من مثل هذا الفعل. وهو عند المالكية ” كل وطء وقع على غير نكاح صحيح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين”، ويعرفه فريق آخر من الفقهاء بما يقرب من هذا غير أنهم يجعلون منه الإتيان في الدُبُر، ومن هؤلاء الشافعية والحنابلة.
وعقوبة الزنى تختلف تبعًا لما إذا كان الجاني محصنًا أو غير محصن، فعقوبة الزاني المحصن (المتزوج) هي الرجم، أي الرمي بالحجارة حتى الموت، أو ما يقوم مقامها، وهذا الحد ورد بالسنة الصحيحة، فقد جاء في حديث العسيف الذي زنى بامرأة مخدومه قول الرسول ل ³: (واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ) رواه الشيخان. فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر بها النبي ³ فرجمتْ، وكذلك حديث ماعز الذي زنى واعترف للرسول ³ فأمر برجمه، وحديث الغامدية التي اعترفت للرسول ³ بالزنى وهي محصنة فرجمها.
وقد اعتبر بعض الفقهاء أن اقتصاره ³ في عقوبة الزاني المحصن بالرجم دليل على نسخ عقوبة الجلد بالنسبة له.
أما عقوبة الزاني غير المحصن، فقد اتفق الفقهاء على أنها الجلد مائة جلدة لقوله تعالى: ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة﴾ النور : 2. ولكن اختلف في حد غير المحصن على التغريب مع الجلد، فعند أبي حنيفة وأصحابه حده الجلد مائة ليس غير، أما إذا رأى الإمام أن يغرَّب مع الجلد فإن ذلك من باب السياسة. والتغريب (أي الإبعاد عن البلاد) عند الزيدية ليس حدًا ولكنه عقوبة تعزيرية وعند الشافعي التغريب واجب، وهو من حد غير المحصن مع الجلد مائة، والتغريب يكون لمدة عام لكل من الزاني والزانية بلا تفرقة، ويغربان عن بلدهما إلى مسافة أقلها يوم وليلة، وعلى هذا الرأي الحنابلة والظاهرية، وعند الإمام مالك يغرب الرجل دون المرأة، وبهذا الرأي قال الأوزاعي.
حد القذف. يقصد بالقذف الذي يستوجب الحد، الرمي بالزنى أو نفي النسب. وغير ذلك لا يستوجب الحـد وإنمـا فيـه التعزير. ودليـل هـذا الحد قولـه تعـالى: ﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون﴾ النور : 4. وهذا الحد لا يختلف فيه أحد لثبوته بنص القرآن الكريم، وقد انعقد عليه الإجماع، فلا يزيد، ولا ينقص.
حد الشرب. ورد تحريم الخمر في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه﴾ المائدة: 90.
وروى مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله ³ عن البتع وهو نبيذ العسل؟ فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام ) وخرَّج مسلم عن ابن عمران أن النبي ³ قال: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ) .
وأما العقوبة فلم يرد بشأنها نص في القرآن الكريم، وروي عن الرسول ³ عدة آثار، مما جعل الجمهور يرى أن العقوبة هي الجلد ثمانين جلدة، وقال الشافعي وأبو ثور وداود: إن الحد أربعون.
حد الرِّدِّة. الردة هي الكفر بعد الإسلام، سواء باعتناق دين آخر أوبعدم اعتناق دين آخر.
وقد جاء عنها في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿ومن يرتَدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدينا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ البقرة : 217.
وروي عن النبيي ³ قوله: (من بدل دينه فاقتلوه ) رواه البخاري في صحيحه وأصحاب السنن بإسناد صحيح. وكذلك حديث لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن بضرب عنق المرتد أو المرتدة بعد دعوتهما للتوبة، كما روي قتل المرتد عن كثير من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر وعثمان ومعاذ بن جبل وابن عباس، ولم يخالف أحدهم في ذلك فصار إجماعًَا. فجريمة الردة ثابتة بالكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، وعقوبة المرتد ثابتة بالسنة والإجماع.
حد البغي. البغي عند من يعتبره حدًا خاص بالبغاة وهم في تعريف الفقهاء “الذين يخرجون على الإمام، ويخالفون الجماعة وينفردون بمذهب يبتدعونه، وذلك بتأويل سائغ مع وجود المنعة والشوكة لهم”.
والأصل في ذلك قوله تعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾ الحجرات : 9.
وروى الأعمش عن سويد بن غفلة، قال : سمعت عليًّا يقول: إذا حدثتكم بشيء عن الرسول ³ فلأن أَخِر من السماء فتخطفني الطير أحب إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيننا فإن الحرب خدعة، وإني سمعت الرسول ³ يقول: (يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرؤون القرآن بألسنتهم لا يجاوز تراقيهم يقولون من خير قول البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فمن لقيهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرًا عظيمًا عند الله لمن قتلهم ) رواه الشيخان.
ولم يختلف الصحابة رضي الله عنهم في قتال البغاة بالسيف إذا لم يردعهم غيره، فقد رأوا جميعًا أن الخوارج، والبغاة يختلف حكمهم حسب الأحوال، ففي أحوال يكون للإمام تعزيرهم بالحبس وبغيره ولا يصل إلى القتل، وفي أحوال أخرى يجوز قتلهم، كما في حالة الحرب، أو إذا خيفت عودتهم إليها على قول بعضهم، وإذا لم يذهب شرهم إلا بالقتل فإن قتلهم يكون متعينًا دفاعًا عن النفس.
حد السرقة. جريمة السرقة كما يعرفها الفقهاء “أخذ البالغ العاقل نصاب القطع خفية، مما لا يتسارع إليه الفساد من المال المتمول للغير، من حرز بلا شبهة” وعقوبة السرقة ثابتة بالنص القرآني وهي قوله تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله﴾ المائدة : 38.
حد قطع الطريق. الأصل في عقوبة جريمة قطع الطريق قوله تعالى: ﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتَّلوا أو يصلَّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض﴾ المائدة : 33.
والنظرة العجلى غير المتأنية لهذه العقوبات قد تستبشع تطبيقها خصوصًا في هذا العصر الذي يتصايح فيه بعض الناس مطالبين بالرفق بالمعتدين المجرمين، غافلين عن حقوق الأفراد الوادعين في الأمن والأمان.
والذي يتأمل في هذه الجريمة، يدرك ما يكون فيها من الضرر العام، وانتشار الفوضى في الطرق بسبب الفزع والرعب الذي يسببه هؤلاء المعتدون باعتدائهم على حرمة النفوس والأموال، وما يؤدي إليه ذلك من اختلال الأمن في البلاد وطمأنينة أفراد المجتمع.
القِصَاص
القصاص مأخوذ من القص، والقص في اللغة أصله القطع، وقد أخذ من هذا المعنى اللغوي القصاص في الجراح إذا اقتُصَّ للمجني عليه من الجاني بجرمه إليه، أو قتله به.
والقصاص عند الفقهاء عقوبة مقدرة، تجب حقًا للفرد، فهو يشترك مع الحدود في كونه عقوبة مقدرة مثلها، ولكنه يختلف عنها في كونه يجب حقًا للفرد بخلاف الحدود، إذ تجب حقًا لله تعالى، ومعنى أن العقوبة مقدرة أنها معينة ومحددة أي ليس لها حد أدنى ولا حد أعلى، وكون القصاص يجب حقًا للأفراد فإنه يجوز للمجني عليه أو لولي الدم، إذا شاء، العفو عنه، وبهذا العفو تسقط العقوبة.
والجرائم التي أوجبت فيها الشريعة الإسلامية القصاص هي القتل العمد وبعض جرائم الاعتداء على البدن وهو ما يطلق عليه في الفقه الوضعي الاعتداء على الحياة، فحق الحياة من الحقوق المطلقة في الشريعة الإسلامية، جاء القرآن الكريم بتحريم الاعتداء عليها إلا بالحق، قال تعالى: ﴿ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق﴾ الأنعام : 151. وجميع النفوس متساوية في هذا الحق، فقتل نفس واحدة يعدل قتل الناس جميعًا، لأنه يشكل الاعتداء على حق الحياة ذاته بصرف النظر عمن وقع عليه الاعتداء، فالكل في حق الحياة سواء، وشريعة الحق سبحانه وتعالى تتضمن هذا المبدأ في كل زمان، يقول سبحانه وتعالى: ﴿من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا﴾ المائدة : 32. ويقول جل شأنه: ﴿ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا﴾ النساء : 93. ولم تقف الشريعة في حمايتها لحق الحياة وسلامة الجسم عند التحذير من العقاب في الحياة الأخرى أو تترك الأمر للضمير في الحياة، وإنما قررت القصاص في حالة القتل العمد، والدية والفدية في حالات الخطأ، وجعل القصاص مساويًا لما وقع على الحياة أو سلامة الجسم من الاعتداء، فإن وصل الاعتداء إلى القتل كان الجزاء القتل، أما إذا وقف عند الجراح كان القصاص مثلها، يقول تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى﴾ البقرة : 178. ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون﴾ البقرة : 179. ويقول عز وجل ﴿وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص﴾ المائدة : 45.
وأبان القرآن الكريم حكم القتل الخطأ في قوله تعالى: ﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ ومن قتل مؤمنًا خطًأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مُسَلمة إلى أهله إلا أن يَصَدَّقُوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مُسَلَّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله وكان الله عليمًا حكيما ﴾ النساء : 92.
التَّعزير
التعزير عند الفقهاء عقوبة غير مقدرة تجب حقًا لله أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة وهو كالحدود في أنه تأديب وإصلاح وزجر.
وإذا كانت الحدود والقصاص عقوبات مقدرة ومحدودة، وكانت الشريعة الإسلامية الغراء صالحة لكل زمان ومكان؛ فقد جاءت التعزيرات لتواكب التطورات التي تحدث في المجتمعات على مر الأزمان والعصور، ومن هنا، قيل: إن قوانين العقوبات الوضعية هي من قبيل التعزيرات التي يقررها ولي الأمر.
وجرائم التعزير كثيرة ومتنوعة فهي تشمل جرائم الحدود إذا اختلت شروط تطبيقها، كما تشمل جرائم الاعتداء على النفس وما دونها، إذا تخلف شرط من شروط القصاص، وجرائم الاعتداء على العرض وإفساد الأخلاق والقذف والسب، وكذلك جرائم الاعتداء على المال كالسرقة التي لا يتوافر فيها شروط إقامة الحد، وكذلك الجرائم التي تقع على المال كجريمة النصب، ومن جرائم التعزير التي تحصل لآحاد الناس كشهادة الزور والبلاغ الكاذب وقتل الحيوانات المستأنسة أو الإضرار بها، وانتهاك حرمة ملك الآخرين، والجرائم المضرة بالمصلحة العامة، وهي الجرائم المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج كالتجسس، والجرائم المخلة بأمن الدولة من جهة الداخل كالرشوة وتجاوز الموظفين حدود وظائفهم وتقصيرهم في أداء الواجبات المتعلقة بها، وسوء معاملة الموظفين لأفراد الناس، ومقاومة الحكام الصالحين وجرائم تزييف المسكوكات وتزويرها والجرائم التموينية.
أما العقوبات التعزيرية فتشمل العقوبات البدنية، كالإعدام، والجلد، كما تشمل العقوبات المقيدة للحرية كالحبس والنفي والعقوبات المالية كالغرامة والمصادرة. وهناك عقوبات تعزيرية متنوعة أخرى مثل التعزير بالإعلام والإحضار لمجلس القضاء والوعظ، والتوبيخ والعزل والتشهير.